طقوس الكوماري في نيبال 2025: طفلة تُعبد حتى البلوغ
على سفوح جبال الهيمالايا، وفي أزقة كاتماندو القديمة، تعيش قصص لا يصدقها العقل. هنا، وسط المعابد البوذية والهندوسية المختلطة، تنبض أسطورة حية اسمها ديانة كوماري، حيث تتحول طفلة عادية إلى إلهة مقدسة تمشي بين الناس حتى يفاجئها جسدها ببلوغ مبكر يعيدها فجأة إلى خانة البشر العاديين.
عندما تسير في أحياء العاصمة النيبالية التاريخية، تجد لوحة خشبية كتب عليها “بيت الكوماري”، حيث تقيم فتاة صغيرة لا يتجاوز عمرها سبع سنوات، لكنها لا تُعامل كطفلة عادية، بل كإلهة حقيقية تستقبل الناس بنظرات صامتة جامدة لا تنطق بكلمة.
في هذا المجتمع المحافظ المنقسم دينيًا، تبدو الكوماري كجسر يربط بين الأسطورة والطقس الاجتماعي. تُقدّس حتى درجة العبادة، تُحمل على الأكتاف، ويُنظر إلى دموعها كرسائل غيبية تنذر بكوارث قادمة أو خير عميم.
لكن، ما الذي يجعل فتاة صغيرة تتحول إلى إلهة، وكيف تتعايش مع تلك الحياة الغريبة؟ وهل هذا التقليد تعبير عن تكريم الأنثى أم سلب لبراءتها وتطبيع لاستغلال طفولتها باسم الدين؟
في هذا التقرير التحليلي من عرب ميرور، نروي لكم القصة الكاملة لـ ديانة كوماري، طقوسها، أسرارها، ونهاية الرحلة التي تنتظر كل كوماري حين تدق ساعة الحقيقة: ساعة البلوغ.
ما هي ديانة كوماري؟
ديانة كوماري، أو عبادة الكوماري، طقس ديني اجتماعي يمارس في نيبال منذ قرون طويلة، خاصة في كاتماندو ومدينة باتان. الكوماري تعني “الفتاة العذراء”، وتُعتبر تجسيدًا حيًا للإلهة دورغا، رمز القوة والحماية في الميثولوجيا الهندوسية.
يتم اختيار فتاة صغيرة من طائفة النيور البوذية، لتجسيد روح الإلهة وتقديم البركة والحماية للمجتمع. يراها أتباع هذا التقليد على أنها رمز للطهارة الإلهية والنقاء، ويعتقدون أن حضورها يجلب الصحة والخير والرخاء.
كيف يتم اختيار الكوماري؟
عملية اختيار الكوماري تخضع لمعايير صارمة ومعقدة للغاية. يُقال إن هناك 32 صفة جسدية وروحية يجب أن تجتمع في الطفلة، تتراوح بين طول الرموش ونوعية الصوت وشكل الأسنان وملمس الجلد.
- أن تكون رموشها كثيفة كعيون البقرة المقدسة.
- أفخاذها ممشوقة تشبه الظبي.
- شعرها أسود طويل وناعم دون تموجات خشنة.
- صوتها رقيق لكنه قوي يشبه صوت البط في نقائه.
- أسنانها مكتملة دون أي فقدان.
- بشرتها صافية خالية من العيوب والتصبغات.
وبعد الفحص الجسدي، تُعرض الطفلة على اختبارات نفسية صعبة. أهمها اختبار الثبات الانفعالي، إذ تُترك في غرفة مظلمة لساعات وسط رؤوس وجلود حيوانات مذبوحة، ليُختبر مدى شجاعتها وثباتها أمام الموت والظلام. إذا صرخت أو بكت، تُستبعد فورًا. أما إذا بقيت هادئة صامتة، تعتبر حاملة لروح الإلهة.
الحياة داخل المعبد: الوجه الآخر للقداسة
منذ لحظة إعلانها كوماري، تنقطع الطفلة عن حياتها الطبيعية تمامًا. تنتقل للعيش في بيت الكوماري، وهو معبد مكون من طابقين في قلب كاتماندو القديمة. هناك، تُحرم من اللعب والاختلاط، ولا يسمح لها بالمشي حافية على الأرض أبدًا، بل تُحمل على أكتاف الرجال أو تجلس على عروش خشبية مطلية بالذهب أثناء تنقلاتها.
ترتدي الكوماري ثيابًا حمراء دائمًا، مع زينة ذهبية كثيفة على شعرها وعنقها، ويرسم على جبينها الرمز المقدس “العين الثالثة” رمز الحكمة والقوة الروحية.
لا تتحدث إلا نادرًا، ولا يسمح لها بالتعبير عن مشاعرها علنًا. البكاء ممنوع، الضحك ممنوع، وحتى الابتسام يقتصر على أوقات معينة إذ يعتبر علامة رضا الإلهة عن الناس.
طقوس المواكب والتقديس الشعبي
أشهر طقوس الكوماري هي مهرجان “إندرا جاترا” السنوي، حيث تخرج الكوماري في موكب ضخم وسط المدينة. تُحمل على عربة ضخمة مزينة بالأقمشة الحمراء والذهبية، ويحيط بها مئات الرجال والنساء والأطفال يهتفون باسمها ويتبركون برؤيتها.
يعتقد الناس أن النظر إلى عيني الكوماري يشفي الأمراض المستعصية ويمنح الحظ السعيد، لذلك ترى شوارع كاتماندو تمتلئ بالمرضى والمهمومين الزاحفين على الأرض أمام عربتها أملاً في الشفاء والبركة.
النهاية المحتومة: حين تذبل القداسة
ألوهية الكوماري ليست أبدية، بل معلقة بحالة واحدة: الطفولة. بمجرد أن تبدأ الفتاة بالبلوغ، وتسقط أول قطرة دم طمث، تسقط معها قدسيتها فجأة، وتُعاد إلى منزل عائلتها دون مراسم تليق بما عاشته.
يُقام احتفال بسيط يسمى “تقاعد الكوماري”، يُعلن فيه رسميًا أن الإلهة غادرتها. بعد ذلك، تتحول من إلهة تُعبد إلى طفلة عادية تحتاج لإعادة تعلم مهارات الحياة اليومية التي حرمت منها، مثل المشي الطبيعي أو الجلوس دون مساعدة.
معاناة ما بعد الألوهية
رغم أن الكوماري تتلقى تعويضًا ماليًا جيدًا بعد انتهاء فترة قدسيتها، إلا أن أغلبهن يعانين من صدمات نفسية واضطرابات اجتماعية عميقة، نتيجة العزلة الصارمة والحرمان الطويل من العلاقات الإنسانية الطبيعية.
تشير دراسات نفسية إلى أن العديد من الكوماري السابقات واجهن صعوبات في الزواج لاحقًا، إذ يسود اعتقاد بأن الرجل الذي يتزوج كوماري سابقة سيموت مبكرًا بسبب لعنة الإلهة، مما يجعل حياتهن الاجتماعية شبه منعدمة.
الجدل الحقوقي: تقديس أم استغلال؟
في العقود الأخيرة، تصاعدت الانتقادات الدولية والحقوقية لطقس كوماري، معتبرة إياه انتهاكًا لحقوق الطفولة وحرمانًا للفتيات من التعليم والنمو الاجتماعي السليم. تقول منظمات حقوق الإنسان إن الكوماري لا تحصل على خيار حقيقي، بل تُفرض عليها حياة من العزلة والتقديس دون وعي حقيقي بمعنى ما يحدث.
لكن الحكومة النيبالية تدافع بشراسة عن هذا التقليد، معتبرة إياه جوهر الهوية الدينية والثقافية للشعب النيبالي، بل وتعتبره وسيلة لتكريم الأنثى ومنحها مكانة لا ينالها حتى الرجال في مجتمع محافظ.
الفقرة الختامية: أسطورة حية أم عبودية روحية؟
تظل ديانة كوماري من أغرب تقاليد العالم، طقسًا غامضًا يجمع بين الإيمان والأسطورة. طفلة تُرفع لمرتبة الآلهة لسنوات، تُقدس وتُعبد وتُحرم من الحياة، ثم تُعاد فجأة إلى إنسانيتها الهشة حين تتفتح زهرة أنوثتها الطبيعية.
إنها حكاية القداسة المؤقتة التي تكشف هشاشة المفاهيم الدينية حين تصطدم بواقع الإنسان وحقوقه. هل هي تكريم للأنثى أم عبودية حديثة مغلفة بالتقديس؟ يبقى السؤال مفتوحًا أمام ضمائرنا جميعًا.